في كل زاوية من زواياها لنا ابتسامة وضحكة

“رهام بكور”
غرام، ريما، بيسان، ثلاث صديقات منذ الطفولة، ونحن الآن طالبات في الصف الثالث الثانوي الأدبي في مدرسة الشهيد فضل الخطيب.
في صباح مشرق كنا نتمشى في باحة المدرسة الواسعة، نضحك بصوت مرتفع، لا تفارق البسمة شفاهنا، نتبادل الأحاديث المختلفة، لا يوجد ما يعكر مزاجنا، ثم جاءت ديالا، وهي طالبة مجدة في الصف الثالث الثانوي العلمي، لكي تتمشى معنا قليلاً. كانت تبدو جميلة وجذابة ترتدي معطفاً جديداً. تبادلنا أحاديث عدة وضحكنا وسألناها عن المنهاج العلمي، وكانت تقول إنه يحتاج إلى جهد ووقت وتركيز، وإنها لا ترتاح إلا قليلاً.
وبعد فترة نصف ساعة نظرت ديالا إلى ساعتها واستأذنت منا لكي تذهب إلى درس الرياضيات في معهد خاص، وبالفعل ذهبت.
نظرت أنا لريما وبيسان وقلت لهما “أنا جائعة”، فقالت لي بيسان: أود أن تمر ساعة واحدة ولا تقولي فيها إنك جائعة، وضحكنا نحن الثلاثة بصوت مرتفع، ثم طلبت ريما مني أن أذهب مع بيسان لكي نشتري القليل من الطعام، أما هي فستنتظرنا في الصف.
قمنا أنا وبيسان بشراء الطعام، ثم ذهبنا إلى الصف وجلسنا نحن الثلاثة على مقعد بجانب نافذة الصف المطلة على الشارع وبدأنا الأكل. وعندما قامت بيسان بفتح جوال ريما لم نشعر إلا بصوت قوي عالٍ جداً، وشعرنا أن جدران الصف قد طبقت علينا ثم عادت لحجمها الطبيعي. فتحنا أعيننا، ظننا أن تلك الضربة لمدرستنا نفسها لأنها كانت مستهدفة من قبل طائرات النظام .
ركضت بيسان لخارج الصف لكي تعرف ما الذي حدث، ثم توجهت مع ريما إلى النافذة علّنا نستطيع تحديد مكان القصف، وفجأة سمعنا صوت صراخ مدرس الكيمياء ينادي جميع طالبات المدرسة للنزول إلى قبو المدرسة، ثم توجهت مع ريما إلى المقعد لكي نحضر أمتعتنا، وبدأنا نبعد الزجاج المكسور عنها.
وخرجنا نبحث عن بيسان والخوف يسيطر علينا، كان هناك كثير من الطالبات يبكين ويصرخن، أما أنا فلم أكن خائفة على نفسي، لم أكن خائفة من الموت نفسه، لكن خوفي كله كان على صديقاتي، وعندما رأيتهن حولي شعرت براحة في نفسي، لأنني كنت أشعر بالقوة بوجودهن، ثم أمسكنا نحن الثلاثة بأيدي بعضنا وتعاهدنا ألا تترك واحدة يد الأخرى.
ثم سمعنا طالبة تصرخ خائفة “تشاهدن أيتها البنات.. تشاهدن”. في هذه اللحظة شعرت بتوتر وطلبت من ريما وبيسان أن نخرج من المدرسة لأنني تذكرت أن أمي قد تكون خائفة ويجب أن أطمئنها على نفسي في أقرب وقت.
وبالفعل خرجنا رغم صوت القصف ورغم منع مديرنا لنا. بدأنا بالركض وفي طريقنا كنا نرى الطائرات في السماء وصوت القصف المرتفع، وكنا نختبئ في أي محل أو منزل يعترض طريقنا، وكان الناس يركضون في كل مكان وفي كل الاتجاهات خائفين مذعورين. وبالفعل بعد صعوبة شديدة وصلنا لمنزل ريما وحاولنا الاتصال بأهلنا مرات عدة وكان صوت القصف يرتفع ويزداد، وصوت سيارات الإسعاف أيضا كان يزداد ويرتفع .
وبعد محاولات اتصال استطعنا أن نخبر أهلنا أننا بخير، وأننا بعد فترة قصيرة سوف نصل المنزل. وهنا منعتنا والدة ريما من الخروج إلا بعد هدوء الأوضاع، لكننا رفضنا وبشدة، ثم خرجنا وأكملنا معاناة القصف ومجابهة الموت.
وعندما وصلت إلى المنزل وجدت أمي تقف أمامي وعيونها مليئة بالدموع وضمتني بقوة، وكنت أحاول مواساتها، وقفت أمامها وابتسمت وقلت لها لا تخافي يا أمي أنا هنا لم يصبني أي مكروه، لكنها كانت تتجاهل كلامي وتعود للبكاء بشدة أكبر.
وعندما هدأ الوضع وارتحت قليلاً تكلمت مع ريما لكي أسألها عن حالها
فأخبرتني أن ديالا، الطالبة التي كانت تمشي معنا في الصباح، استشهدت وصارت ضحية للحرب اللعينة. انصدمت من هذا الخبر وانهمرت دموعي دون أن أشعر، حزنت كثيراً على تلك الطالبة التي كانت تسعى لتحقيق حلمها وطموحها وكان هدفها الوحيد هو مستقبلها ودراستها، أغلقت الهاتف، جلست ولم أستطع أن أتحدث أو أن أنطق بأي كلمة.
خلال شهرين من تلك الضربة كنت أهاتف صديقاتي في معظم الأيام، لأننا لم نكن نذهب إلى المدرسة، ثم عدنا إليها وكانت الأوضاع تسوء أكثر وأكثر، كنا نذهب ونعود والخوف يخيم على أرواحنا.
وفي ليلة من الليالي سمعنا صوت قصف عنيف، وعند الصباح تكلمت مع ريما وبيسان وقررنا ألا نذهب إلى المدرسة. وبعد يومين استيقظنا الساعة الثامنة صباحاً وتفاجأت بخبر قصف مدرستنا ودمارها. لم أصدق في البداية، ولكن عندما بدأت ريما بإرسال صور المدرسة شعرت بأن روحي ذهبت معها، بأن ثلاثة أعوام من عمرنا ذهبت مع كل حجرٍ من أحجارها، بأن ذكرياتي مع صديقاتي ماتت، كان لنا في كل زاوية منها رواية وقصة وابتسامة وضحكة.

اترك تعليقاً